فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

الإِخلاصُ مِسْكٌ مَصُونُ في القلبِ يُنِبّه رِيْحُهُ عَلى حَامِله، العَمَلُ صُوْرَةٌ والإِخلاصُ رُوح، إذا لم تُخْلِصْ العَملَ للهِ وحْدَهُ فلا تَتْعَب، لو قَطَعْتَ المنازِلَ لم تكن حَاجاً إلا بشُهُود الوقُوف بالموقف، ولا تَغْتَرَّ بِصُورة الطاعات.
كان أيوبُ السِختياني إذا تَحَدَّثَ فَرَقَّ قلبهُ وجَاءَ الدَّمْعُ قال ما أَشَدَّ الزُكام.
وكان إبْراهِيمُ بْنُ أدهم إذا مَرِضَ يَجْعَلُ عند رَأسِهِ ما يأكل الأَصِحَاء كَيْلاَ يَتَشَّبهُ بالشاكِين.
وكان ابن أبي ليلي يصلي فإذا أحَسَّ بداخل نام على فراشه.
وكان النخعي يَقْرَأَ في المُصْحَفِ فإذا دَخل عليه أحَدُ غطاه.
وكان الواحدُ من السلف تأتيهِ العَبْرةُ والخشوعُ فيقوم خشيةَ أنْ يُفْطَنَ له.
وكان بعضُهم يُصَليِ ويبكي وإذا جاءه زائر غسَّل وَجْهَهُ عن الدموع لئلا يتنبه له.
كل هذا من الإخلاص بَلِّغْ يا أَخِى مَعْشَرَ المُرَائِينَ الذين إذا سَاهَمُوا في مَشْرُوْعٍ دِيْني نشروا أسْمَاءَهُم في الجرائد والمجلات والاذاعات والذين يُعَدِّدُوْنَ كَمْ حَجُّوْا من سَنَة وهم ما سُئِلُوْا ويَقُولون نَحنُ نعتمر كل سنة وأهلنا وأولادنا ويَجْلِس بالحرم.
ويُهْمِل عَائِلَتهُ ولا يُحَافِظ عليهم ولا يدري أَيْنَ يَذْهَبُون في الليل والنهار ورُبَّمَا حَصَل له بسببهم إثمٌ عظيم لأَن سَيئَةَ الحرم عَظيمة لَيْسَتْ كَغَيرها.
وربما كان مع ذلك المأكل والملبس والمركب حرام نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وهذه المسائل قَلَّ مَن يَنَتَّبهُ لها مِن طلبة العلم فَضْلاً عن غيرهم.
فالرياءُ مِن أصْعَبِ الأَشياءِ وأخْفَاهَا وضرَرُهُ عَظِيم وقد يُحْبِطَ الأعمال.
فَيَنْبَغِي للإنسان أن يَجْعَلَهُ دَائماً نَصْبَ عَيْنَيْهِ في الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال.
اللَّهُمَّ قَوِّنَا بالْيَقِينِ وَامْنَحْنَا التَّوْفِيْقَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِِدِيْنَا وَلجَمِيْعِ الْمُسْلِميْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمْينَ وَصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
تَبَارَكَ مَنْ شُكْرُ الوَرَى عَنْهُ يَقْصُرُ ** لِكَوْنِ أَيَادِيْ جُوْدِهِ لَيْسَ تُحْصَرُ

وَشَاكِرُهَا يَحْتَاجُ شُكْرَاً لِشُكْرِهَا ** كَذَلِكَ شُكْرُ الشُّكْرِ يَحْتَاجُ يُشْكَرُ

فَفِيْ كُلِّ شُكْرِ نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ** بغَيْر تَنَاءٍ دُوْنَهَا الشُّكْرُ يَصْغُرُ

فَمَنْ رَامَ يَقْضِيَ حَقَّ وَاجِبِ شُكْرهَا ** تَحَمَّلَ ضِمْنَ الشُّكْرِ مَا هُو أَكْبَرُ

تُسَبِّحُهُ الحِيْتَانُ في الْمَا وفي الْفلاَ ** وُحُوْشٌ وَطَيْرٌ في الهَوَاىِ مُسَخَّرُ

وَفي الفُلْكِ وَالأَمْلَاكِ كُلٌ مُسَبَّحٌ ** نَهَارَاً وَلَيْلاً دَائِمَاً لَيْسَ يَفْتُرُ

تُسَبَّحُ كُلُّ الكَائِنَاتِ بِحَمْدِهِ ** سَمَاءٌ وَأَرْضٌ وَالجِبَالُ وَأَبْحُرُ

جَمْيعَاً وَمَنْ فِيْهنَّ وَالكُلُّ خَاشِعٌ ** لِهَيْبَتِهِ العُظْمَى وَلاَ يَتَكَبَّرُ

لَهُ كُلُّ ذرَّاتِ الوُجُوْدِ شَوَاهِدٌ ** عَلَي أنهُ البَارِيْ الإِلَهُ المُصَوِّرُ

دَحَا الأَرْضَ وَالسَّبْعَ السَّمَاوَاتِ شَادَهَا ** وَأَتْقَنَهَا لِلْعالمِيْنَ لِيَنْظُرُوا

وَأَبْدَعَ حُسْنَ الصُّنْعِ في مَلَكُوْتِهَا ** وَفي مَلَكُوْتِ الأَرْضِ كَيْ يَتَفَكَّرُوا

وَأَوْتَدَهَا بِالرَّاسِيَاتِ فَلَمْ تَمِدْ ** وَشقَّقَ أَنْهَارَاً بِهَا تَتَفَجَّرُ

وَأَخْرَجْ مَرْعَاهَا وَبَثَّ دَوَابَهَا ** وَلِلْكُلَّ يَأَتِي مِنْهُ رِزْقٌ مُقَدَّرُ

مِنْ الحَبِّ ثُمَّ الأَبّ والقَضْبِ وَالكَلاَ ** وَنَخْلٍ وَأَعْنَابٍ فَوَاكِهُ تُثْمِرُ

فَأَضْحَتْ بِحُسْنِ الزَّهْرِ تَزْهُوْ رِيَاضُهَا ** وَفِي حُلَلٍ نسْجُ الرَّبِيْع تَبَختَرُ

وَزَانَ سَمَاءً بِالمَصَابِيْحِ أَصْبَحَتْ ** وأَمْسَتْ بِبَاهِيْ الحُسْن تَزْهُوْ وَتَزْهَرُ

تَرَاهَا إِذَا جَنَّ الدُّجَى قَدْ تَقَلَّدَتْ ** قَلَائِدَ دُرِّيٍّ لِدُرٍّ تُحَقِّرُ

فَيَا نَاظِراً زَهْرَ البَسَاتِيْنَ دُوْنَهَا ** أَظُنُّكَ أَعْمَى لَيْسَ لِلْحُسْنِ تُبْصِرُ

وَيَا مَنْ لَهَا إِنَّ المَحَاسِنَ كلَّهَا ** بدَارٍ بِهَا ما لا عَلَى القَلْبِ يَخْطُرُ

وَلاَ سمِعَتْ أُذْنٌ وَلَا الْعَيْنُ أَبْصَرَتْ ** وَمَا تشْتَهِيْهِ النَّفْسُ في الحَالِ يَحْضُرُ

تَزيْدُ بَهَاءً كُلَّ حِيْنٍ وَعَيْشُهَا ** يَزيْدُ صَفَاءً قطُّ لاَ يَتَكَدَّرُ

مِنْ الدُّرَّ وَاليَاقُوْتِ تُبْنَى قُصُوْرُهَا ** وَمِنْ ذَهَبٍ مَعْ فِضَّةٍ لاَ تَغَيَّرُ

وَمَا يُشْتَهَى مِنْ لَحْمِ طَيْرٍ طَعَامُهَا ** وَفَاكِهةٍ مِمَّا لَهُ يُتَخَيَّرُ

وَمَشْرُوْبُهَا كَافُوْرُهَا وَرَحِيْقُهَا ** وَتَسْنِيْمُهَا والسَّلْسَبِيْلُ وَكَوْثَرُ

وَمِنْ عَسَلٍ وَالخَمْر نَهْرَانِ جَوْفُهَا ** وَنَهْرَانِ أَلبَانٌ وَمَاءٌ يُفَجَّرُ

وَغَاليْ حَرِيْرٍ فُرْشُهَا وَلِبَاسُهَا ** وَحَصْبَاؤُهَا والتُّرْبُ مِسْكٌ وَجَوْهَرُ

وَمِنْ زَعْفَرَانٍ نَبْتُهَا وَحَشِيْشُهَا ** وَمِنْ جَوْهَرٍ أَشْجَارُهَا تِلْكَ تُثْمِرُ

فَوَاكِهُ تَكْفِيْ حَبَّةٌ لِقَبِيْلَةٍ ** أُدِيْمَتْ أُبِيْحَتْ لا تُبَاعُ وَتُحْجَرُ

وَأَكْوَابُهَا مَنُ فِضَّةٍ لاَ كَبِيْرَةٍ ** عَلى شَارِبٍ مِنْهَا وَلا هِيَ تَصْغُرُ

وَمِنْ ذَهَبٍِ زَاهِيْ الجَمَالِ صِحَافُهَا ** يَلِذُّ بِهَا عَيْشٌ بِهِ العَيْنُ تَقْرُرُ

وَأَزْوَاجُهُا حُوْرٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ ** رَعَابِيْبُ أَبْكَارٌ بِهَا النُّوْرُ يَزْهُرُ

هَرَاكِيْلُ خُوْدَاتٌ وَغِيْدٌ وخُرَّدٌ ** مَدَى الدَّهْرِ لاَ تَبْلَىَ وَلا تَتَغَيَّرُ

نَشَتْ عُرُباً أَتْرَاب سِنّ قََوَاصِرٍ ** لِطَرْفٍ كَحِيْلٍ لِلْمَلاحَةِ يَفْتُرُ

عَوَالي الحُلَى وَالحَلْيُ عَيْنٌ فَوَاخر ** زَكَتْ طَهُرَتْ مِنْ كُلِّ مَا يُتَقَذَّرُ

ثَوَتْ في خِيَامِ الدُّرِّ في رَوْضَةِ البَهَا ** عَلى سُرُرِ اليَاقُوْتِ تَغْدُر وَتَحْضُرُ

مِلاحٌ زَهَتْ في رَوْنَق الحُسْن وَالبَهَا ** وَكُلُّ جَمَالٍ دُوْنَهُ المَدْحُ يَقْصُرُ

وَمَا الْمَدَحُ فِيْمَنْ نَشَرُهَا وَابْتِسَامُهَا ** يُضِيءُ الدَّيَاجِيْ وَالوُجُوْدَ يُعَطِرُ

وَمَنْ يَعْذُبُ البَحْرُ الأُجاجُ برْيقِهَا ** وَمَنْ حُسْنَها لِلْعَالْمِينَ يُحَيَّرُ

وَمَنْ لَوْ بَدَتْ مِنْ مَشْرقٍ ضَاءَ مَغْرِبٌ ** وَحَارَ الوَرى مِنْ حُسْنِهَا حِيْنَ تَظْهَرُ

وَمَنْ مُخُّهَا مِنْ تَحْتِ سَبْعِينَ حُلَّةً ** يُرَى كَيْفَ مُوْفي المَدْحِ عَنْهَا يُعَبِّرُ

فَخَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا جَميعاً خِمَارُهَا ** فأَحْسِنْ بِمَنْ تَحْتَ الخِمَارِ مُخَمَّرُ

وَأَحْقِرْ بِرَبَّاتِ المحَاسِن وَالتَّىِ ** بِتَشْبِيْهِ أَوْصَافِ الجِنَانِ تُصَدَّرُ

فَمَا الفِضَّةُ البَيْضَاءُ شِيْبَتْ بِعَسْجِدٍ ** وَمَا البَيْضُ مَكْنُونُ النَّعَامِ المُسَتَّرُ

بَهَاءً وَحُسْناً مَا الْيَوَاقِيْتُ في الصَّفَا ** وفي رَوْنَقٍ مَا اللُّؤْلُؤ الرَّطْبُ يُنْثَرُ

وَمَا شَبَّهَ الرَّحْمَنُ مِنْ بَعْضِ وَصْفِها ** بِبَيْضٍ وَيَاقُوتٍ فَذَلِكَ يُذْكَرُ

عَلى جِهَةِ التَّقْريْبِ لِلذُهْنِ إِذْ لَنَا ** عُقُوْلٌ عَلَيْهَا فَهْمُ مَا يَتَعَسَّرُ

تَبَارَكَ مُنْشِيْ الخَلْقِ عَنْ سِرِّ حِكْمَةٍ ** هُوَ اللهُ مَوْلانَا الحَكَيْمُ المُدَبّرُ

إِذَا مَا تَجَلَّى اللهُ لِلْخَلْقِ جَهْرَةً ** تَعَالَى لِكلِّ المُؤْمِنِينَ لِيَنْظُرُوا

وَقَدْ زُيِّنَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَزُخْرِفَتْ ** نَسُوا كلَّ مَا فِيْهَا لِمَا مِنْهُ أَبْصَرُوا

جَمَالاً وَوَصْفاً جَلَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ ** وَفَضْلاً وَإِنْعَامَاً يَجِلُّ وَيكْبُرُ

نَعِيْمٌ وَلَذَّاتٌ وَعِزٌّ وَرِفْعَةٌ ** وَقُرْبٌ وَرِضْوَانٌ وَمُلْكٌ وَمَتْجَرُ

بِمَقْعَدِ صِدْقٍ فِي جِوَارِ مَلِيْكِهِمْ ** هَنْيئاً لِمَسْعُوْدٍ بِذَلِكَ يَظْفُر

أَيَا سَاعَةً فِيهَا السَّعَادَاتُ يُجْتَلَى ** عَلى وَجْهِهَا دُرُّ العِنَايَاتِ يُنْثَرُ

وَيَا سَاعةً فِيْهَا المفَاخِرُ تُرْتَقَى ** عُلاهَا وَخَلْعَاتُ الكِرَامِ تُنَشَّرُ

أَلاَ بَائِعُ الفَانِيْ الحَقِيْر بِبَاقي ** خَطيْرٍ وَمُلكٍِ لَيْسَ يَبْلَي وَيَدمُرُ

أَلاَ مُفْتَدٍ مِنْ نَارَ حَرٍّ عَظِيْمَةٍ ** أُلوْفُ سِنْين تِلْكَ تُحْمَى وَتُسْعَرُ

لهَا شَرَرٌ كَالقَصْر فِيْهَا سَلاسِلٌ ** عِظامٌ وَأَغلالٌ فَغُلُّوْا وَجُرْجِرُوا

عُصَاةٌ وَفُجَّارٌ وَسَبْعٌ طِبَاقُهَا ** وَسَبْعِينَ عَاماً عُمْقُهَا قَدْ تَهَوَّرُوا

وَحَيَّاتُها كَالبُخْتِ فِيْهَا عَقَارِبٌ ** بِغَالٌ وضَرْبٌ وَالزَّبَانِيُ يَنْهَرُ

غَلِيْظٌ شَدِيْدٌ في يَدَيْهِ مَقَامِعٌ ** إِذَا ضَرَب الصُّمَّ الجِبَالَ تَكَسَّرُ

وَمَطْعُومُهُمْ زَقُّوْمُهَا وَشَرَابُهُمْ ** حَمِيْمٌ بِهَا أَمْعَاؤُهُمْ مِنْهُ تَنْدُرُ

وَيُسْقَونَ أَيضاً مِنْ صَدِيْدٍ وَجِيْفَة ** تَفَجَّرُ مِنْ فَرْجِ الذِيْ كَانَ يَفْجُرُ

وَقَدْ شَابَ مِنْ يَوْمٍ عَبُوسٍ شَبَابُهُم ** لِهَوْلٍ عَظِيْم لِلْخَلائِقِ يُسْكِرُ

فَيَا عَجَباً نَدْرِيْ بِنَارٍ وَجَنَّةٍ ** وَلَيْسَ لِذَيْ نَشْتَاقُ أَوْ تِلْكَ نَحْذَرُ

إِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وشَوْقٌ وَلا حَيَا ** فَمَاذَا بَقِيْ فِيْنَا مِنَ الخَيْر ُيذْكَرُ

وَلَيْسَ لِحرَّ صَابِرْينَ وَلا بَلاَ ** فَكَيْفَ عَلى النِّيْرَانِ يَا قَوْمُ نَصُبِرُ

وَفَوْتُ جِنَانِ الخُلْدِ أَعْظَمُ حَسْرَةً ** عَلى تِلْكَ فَلْيَسَتَحْسِرِ المُتَحَسِّرُ

فَأُفًّ لَنَا أُفٍّ كِلابُ مَزَابِلٍ ** إلى نَتْنِهَا نَغْدَوْا وَلا نَتَدَبَّرُ

نَبِيْعُ خَطيراً بالحقيرِ عِمَايَة ** وَلَيْسَ لَنَا عَقْلٌ وَلُبٌّ مُنَوَّرُ

فَطُوْبَي لِمنْ يُؤْتَى القَنَاعَةَ وَالتُّقَى ** وَأَوْقَاتُهُ في طَاعةِ اللهِ يَعْمُرُ

فَيَا أَيُّهَا الأَخْوَانُ مِنْ كُلِّ سَامعٍ ** لَهُ فَهْمُ قَلبٍ حَاضرٍ يَتَذَكَّرُ

أَلاَ إنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةٍ ** لِصَاحِبها رِبْحٌ بِهَا لَيْسَ يَخْسَرُ

وَطَاعَتُهُ لِلْمُتَّقِى خَيْرُ حِرْفَةٍ ** بِهَا يَكْسِبُ الخَيْرَاتِ وَالسَّعْيُ يُشْكَرُ

إِذَا أَصْبح البَطَّالُ في الحَشْرِ نَادِماً ** يَعُضُّ عَلى كَفٍّ أَسىً يَتَحسَّرُ

فَطُوْبَى لِمَنْ يُمْسِيْ وَيُصْبحُ عَامِلاً ** عَلى كُلُّ شَئٍ طَاعَة اللهِ يُؤْثِرُ

بِهَا يَعْمُرُ الأَوْقَاتَ أَيَّامَ عُمْرِهِ ** يُصَلّيْ وَيَتْلُو لِلكِتَابِ وَيَذْكُرُ

وَيَأْنَسُ بِالمَوْلَى وَيَسْتَوْحِشُ الوَرَى ** وَيَشْكُرُ في السَّرَّا وَفي الضَّرَّا يَصْبِرُ

وَيَسْلُوْ عَنَّ اللَّذَّاتٍ بِالدُّوْنِ قَانِعُ ** عَفِيْفٌ لَهُ قَلبٌ نَقِيُّ مُنَوَّرُ

حَزِيْنٌ نَحِيْلٌ جِسْمُهُ ضَامِرُ الحَشَا ** يَصُوْمُ عَنَّ الدُّنْيَا عَلى المَوْتِ يُفْطِرُ

إِذَا ذُكِرَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَأَهْلُهَا ** يَذُوْبُ اشْتِيَاقاً نَحْوَاهَا وَيُشَمِّرُ

وَيَعْلُو جَوَادَ العَزْمِ أَدْهَمَ سَابِقاً ** وَأَبْيَضَ مَجْنُوباً عَن النُّوْرِ يُسْفِرُ

فَأَدْهَمُ يَسْقِيْ مَاءَ عَيْنٍ وَأَبْيَضٌ ** لِصَبْرٍ عَلى صَوْمِ الهَجِيْرِ يُضَمَّرُ

وَيَرْكُضُ في مَيْدَانِ سَبْقٍ إلى العُلا ** وَيَسْرِىْ إلى نَيْلِ المَعَاليْ وَيَسْهَرُ

فَمَجْدُ العُلاَ مَا نَالهُ غَيْرُ مَاجِدٍ ** يُخَاطِرُ بِالرُّوْحِ الخَطِيْرِ فَيَظْفُرُ

سَأَلْتُ الذِيْ عَمَّ الوُجُوْدَ بِجُوْدِهِ ** وَمَنْ مِنْهُ فَيْضُ الفَضْل لِلْخَلْقِ يَغْمُرُ

يَمُنُّ عَلَيْنَا فِي قَبُولِ دُعَائِنَا ** وَيُلْحِقُنَا بِالصَّالِحِيْنَ وَيَغْفِرُ

وَأَزَكْى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامِهِ ** عَلى المُصْطَفَى مَا لاَحَ فِيْ الأُفْقِ نَيِّرُ

.فصل في ذِكْرِ بَعْضِ سِيْرَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَعَدْلِهِ:

انْصَافُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَأَقَارِبِه رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى:
فَعِنْدَمَا تَوَلَّى أَخَذَ جَوْاهَرَ زَوْجَتِهِ وَحُلِيّهَا فِيْمَا أَخَذَ فَأَوْدَعَهُ بَيْتَ المَالِ حَتَّى إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ المُسْلِمُونَ أَنْفَقَهُ عَلَيْهِمْ.
وَعِنْدَمَا أَحَسَّ أَنَهَا لَمْ ترض أَوَّلَ الأَمْرِ كُلَّ الرِّضَا بِمَا فَعَلَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تُقِيْمَ عِنْدَهُ وَبَيْنَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا فَرضِيَتْ أَنْ تُقِيْمُ عِنْدَهُ وَأنْ تَدْفَعَ بِحُلِيَّهَا وَجَوَاهِرِهَا إلى بَيْتِ المَالِ ثُمَّ لا تَرُدُّهُ إِلَيْهَا أبَداً. وَمَا زَالَ عُمَرُ في زَوْجَتِهِ حَتَّى أَثَّرَ عَلَيْهَا وَاقْتَدَتْ بِهِ في الوَرَعِ وَالزُّهْدِ رضي الله عنهما. وَكَمَا فَعَل عُمَرُ مَعَ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ فَعَلَ بِأَوْلاَدِهِ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ.
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ ابْنَتُهُ بلؤلوةٍ وَقَالَتْ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْْ تَبْعَثَ لِيْ بأخْتِهَا حَتْى أَجْعَلَها في أُذِنَيَّ فأرَسْلَ لَهَا بِجَمْرَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَها إن اسْتَطعْتِ أنْ تَجْعَلِي هَاتَينِ الجَمْرَتَيْنِ في أذُنَيكِ بَعثتُ إلَيْكِ بِأخْتِهَا.
وَبَلَغَ عُمَرَ أَنَّ ابْنَهُ اشْتَرَى فَصَّ خَاتَمٍ بِأَلْفِ درْهَمٍ فَكَتَبَ عَزِيْمَةٌ مِنِّيْ عَليْكَ إلا بِعْتَ هَذا الخَاتَمَ الذِي اشْتَرَيْتَهُ بِألْفِ درْهَمٍ وَتَصَدَّقْتَ بثَمَنِهِ اشْتَرَيْتَ آخَرَ بِدْرَهمٍ نَقَشَتْ عَلَيْهِ: رَحِمَ اللهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ. وَالسَّلامُ.
وَجَمَعَ يَوْماً رُؤَسَاءِ النَّاسِ فَخَطَبَهُم فَقَالَ: إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ بيَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللهُ ثُمَّ وَليهَا أبو بَكرٍ وَعُمَرُ كَذلِكَ قالَ الأَصْمَعِيُّ وَمَا أدْرَي مَا قَال في عُثْمَانَ ثمْ قَال أَنَّ مَرْوَانَ أقْطَعَهَا فَحَصَل لِيْ مِنْهَا نَصِيْبٌ وَوَهَبَنِيْ الوَلِيْدِ وَسُلْيمَانُ نَصِيْبَهُما وَلمْ يَكُنْ من مالي شيء أرده أغلى منها وقد رددتها في بيت المال على ما كانت عليه في زَمانِ رَسُولِ الله صَلى اللهُ عليه وسَلم.
قال فَيئِسَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ المَظَالِمَ ثُمَّ أَمَرَ بأمْوَالِ جَمَاعَةً مِنْ بَنِيْ أُمَيَّة فَرَدُّوْهَا إلى بَيْتِ المالِ وَسَمَّاهَا أمْوَالُ المظالِم فاسْتَشَْفعَ إِلْيهِ النَّاسُ وتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بعَمتِهِ فَاطِمَةِ بِنْتِ مَرْوانَ فَلمْ يَنْجَعْ فِيْهِ شَئٌ.
وَقَالَ لَهُم لَتَدَعُني وَإِلاَّ ذَهَبْتُ إلى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَنْ هَذَا الأَمْرِ لِأَحَقِّ النَّاسِ بِهِ.
وَقَدْ اَجْتَهَدَ رَحِمَهُ اللهُ في مُدَّةِ وِلايَتِهِ مَعَ قِصَرِهَا حَتَّى رَدَّ المظَالِمَ وَصَرَفَ إلى كُلِّ ذِيْ حَقًّ حَقّهُ.
وَكَانَ مُنَادِيْهِ في كُلِّ يَوْمٍ يُنَادِيْ أَيْنَ الغَارِمُوْنَ أَيْنَ النَّاكِحُوْنَ أَيْنَ المسَاكِيْنُ أَيْنَ اليَتَامَى حَتَّى أَغَني كلاًّ مِنْ هَؤُلاءِ فَرَحْمَةُ اللهِ عَلى تِلْكَ الرُّوْحِ المَطْبُوعِ عَلى العَدْل والصدق والوَرَعِ والزُّهْدِ.
وقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْماً وَهُوَ جَالِسٌ في مُصَلاَّهُ وَاضِعاً خَدَّهُ على يَدِهِ وَدُمُوُعُه تَسِيْلُ على خَدَّيْهِ فقُلتُ مَالَكَ فَقَالَ وَيْحَكِ يَا فَاطِمَة قد وُلِّيْتُ مِنْ أَمْرِ هذِهِ الأُمَّةِ مَا وُلِّيْتُ فَتَفَكَّرْتُ في الفَقِيْرِ الجَائِعِ وَالمظْلُوْمِ المَقْهُوْرِ وَالغَرِيْبِ وَالأَسِيْرِ وَالشَّيْخِ الكَبِيْرِ وذِي العِيَالِ الكَثِيْرِ وَالمرَيْض الضَّائِع والعَارِيْ المَجْهُودِ واليَتِيْمِ المكْسُوْرِ وَالأَرْمَلةِ الوَحِيْدَةِ والْمَالُ قَليْلٌ وَأَشْبَاهُهُم في أقطارِ الأرْضِ وَأَطْرَافِ البِلاَدِ.
فعَلِمْتُ أَنَّ رَبَّيْ عَزَّ وَجَلَّ سَيَسْأَلُنِي عَنْهُم يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَنَّ خَصْمِيْ دُوْنَهُم محمد صلى الله عليه وسلم فخَشِيْتُ أنْ لا يَثْبُتَ لِيْ حُجِّةٌ عِنْدَ خُصُوْمَتِهِ فَرَحِمْتُ نَفْسِيْ فَبكيْتُ، قَالُوا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَكَانَ إِذا غَسَلُوهُ جَلَسَ فِي المَنْزِلِ حَتَّى يَيْبَسَ. قَالُوا: وَدَخَلَ مَرَّةً عَلَى امْرَأَتِهِ فسَألَها أَنْ تُقْرِضَهُ دِرْهَماً أو فُلُوساً يَشْتَرِيْ لهُ بِهَا عِنَباً فلَمْ يَجِدْ عِنْدَهَا شَيْئاً فَقَالَتْ لهُ أنتَ أمِيْرُ المؤمنينَ وَلَيْسَ في خِزَانَتِكَ ما تَشْتَرِيْ بِهِ عِنَباً.
فَقَالَ: هَذَا أَيسَرُ مِنْ مُعَالَجَةِ الأَغْلَالِ وَالانْكَالِ غَداً في جَهَّنَم. قَالَ وَكَانَ سِرَاجُه عَلى ثلاثِ قَصَبَاتٍ في رَأْسِهِنَّ طِينٌ وَبَعَثَ يَوْمَاً غُلامَهُ لِيشْوِيْ لهُ لَحْماً فَجَاءَ بِهَا سَرِيْعاً مَشْويَّةً فَقَالَ أَيْنَ شَوَيْتَهَا قَالَ في المَطْبخِ.
فَقَالَ: في مَطْبَخِ المُسْلِمْينَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كُلْهَا فَإنِّْي لَمْ أرْزَقْهَا هِيَ رِزْقُكَ وَسَخَّنُوا لهُ المَاءَ في المطْبَخِ العَامِّ فَرَدَّ بدَلَ ذلكَ بدِرْهَمٍ حَطَباً.
وَكَانَ لَهُ سِرَاجٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ حَوَائِجَهُ وَسِراجٌ لِبَيْتِ المَالِ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَصَالِحُ المُسْلِمِيْنَ لا يَكْتُبُ عَلى ضَوْئِهِ لِنَفْسِهِ حَرْفاً وَبَلَغَ عُمَرُ أنَّ رَجلاً مِنْ أَصْحَابِهِ تُوُفِّى فَجَاءَ إلَى أَهْلِهِ يُعَزِّيْهِمْ فَصَرَخُوا في وَجْهِهِ بِالبُكَاءِ عَلَيْهِ فَقَالَ مَهْ إنَّ صَاحِبَكُمْ لَمْ يَكُنْ يَرْزُقكُم إنَ الذِي يَرْزُقُكُمْ حَيٌّ لا يَمُوْتُ وَإنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمْ يَسُدَّ شيئًا مِنْ حُفَرِكِمْ، وَإِنَّمَا سَدَّ حُفْرَةَ نَفْسِهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْكُم حُفْرَةً لابد وَاللهِ أَنْ يَسُدَّهَا.
إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالخَرَابِ وَعَلى أَهْلِهَا بِالفَنَاءِ وَمَا امْتَلأَتْ دَارٌ حُبْرَةً إِلّا امْتَلأَتْ عِبْرَةً وَلاَ اْجَتَمُعوا إلا تَفَرّقُوا حَتَّى يَكُوْنَ اللهُ هُوَ الذِي يَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ بَاكِياً فَلْيَبْكِ عَلى نَفْسِهِ فإنَّ الذِي صَارَ إلَيْهِ صَاحِبُكُمْ كُلَّ النَّاسِ يَصِيْرُونَ إلَيْهِ غَداً.
أَبْقَيْتَ مَالَكَ مِيْرَاثاً لِوَارِثِهِ ** فَلَيْتَ شِعْرِيَ مَا أَبْقَى لَكَ المَالُ

القَوْمُ بَعْدَكَ في حَالٍ تَسُرُّهُمُ ** فَكيْفَ بَعْدهُمُو صَارَتْ بِكَ الحَالُ

مَلُّوا البُكَاءَ فَمَا يَبْكِيْكَ مِنْ أَحَدٍ ** وَاسْتَحْكَمَ القِيْلُ في المِيْرَاثِ وَالقَالُ

مَالَتْ بِهِمْ عَنْكَ دُنْيَا أَقْبَلَتْ لَهُمُوا ** وَأدْبَرَتْ عَنْكَ وَالأَيَّامُ أَحوَالُ

وَكَان رَحِمَةُ اللهُ قَدْ رَزَقَهُ اللهُ العِلْمَ وَالحِكْمَةَ وَالأَدَبَ وَالعَدْلَ فَمَا تَزَحْزَحَ قَيْدَ شِبْرٍ عَن طَرِيْقةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أنّهُ شَيَّعَ جَنَازَةً فَلمَّا انْصَرَفَ النّاسُ تَأخّرَ عُمَرُ وَتَأَخَّرَ مَعَهُ أُنَاسٌ وَجَلَسُوا نَاحِيَةً.
فَقاَلَ لَهُ بَعْضُ أَصَحَابِهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِيْنَ لِمَ تَأَخَّرْتَ وَتَرَكت الجَنَازَةَ وَأَنْتَ وَلِيُّهَا فَقَالَ نَعَمْ نَادَانِيْ القَبْرُ مِنْ خَلْفِيْ يَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِالعَزِيْزِ ألا تَسْأَلُنِيْ مَا صَنَعْتُ بالأحِبَّةِ قُلتُ بَلى. قَالَ أَحْرَقْتُ الأَكْفَانَ وَمَزَّقْتُ الأبْدَانَ وَمَصَصْتُ الدَّمَ وَأَكَلْتُ اللَّحْمَ قَالَ أَلَّا تَسْأَلُنِيْ مَا صَنَعْتُ بِالأَوْصَالِ قُلتُ بَلى قَالَ نَزَعْتُ الكَفَّينِ مِنْ الذِّرَاعَيْنِ وَالذّرَاعَيْنِ مِنَ العَضُدَيْنِ وَالوَرْكَيْنِ مِن الفَخِذَيْنِ وَالفَخِذَيْنِ مِن الرُّكْبتينِ والرُّكْبتينِ مِن السَّاقَينِ والسَّاقَينِ مِن القَدَمَيْنِ. ثُمَّ بَكَى عُمَرُ وَقَالَ أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا بَقَاؤُهَا قَلِيْلٌ وَعَزِيْزُهَا ذَلِيْلٌ وَغَنِيُّهَا فَقِيرٌ وَشَابُّها يَهْرَمُ وَحيُّهَا يَمُوتُ فَلا يَغُرَّنكُم إقبَالُهَا مَعَ سُرْعَةِ ادْبَارِهَا فَالمغْرُورُ مَنْ اغْتَرَّ بِمَا لا يَدُومُ والمفْتُونُ مَنْ أجْهَدَ نَفْسَهُ في طَلَبِ مَا لَيْسَ بِمَقْسُوْمٍ.
ثُمَّ قَالَ أَيْنَ سُكّانُهَا الذِيْنَ تَبَوَّؤُا مَدَائِنَها وَشَقُّوا أَنْهَارَهَا وَغَرَسُوا أَشْجَارَهَا لَقَدْ أَقَامُوا أَيّاماً يَسِيْرَةً فَتَنَتْهُم العَافِيَةُ وَغَرَّهُم النَّشَاطُ وَأَلْهَتْهُم الزَّخَارِفُ فرَكِبُوا المَعَاصِيْ حتَّى أنَاخَت بهِم مَطَايَاهَا عَلى حَافَاتِ الحُفَرِ.
وَالقَبْرُ إمَّا رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الجَنةِ أوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ فَوَاخَيْبَةَ آمَالِهم ويَا حَسْرَةَ قلُوبِهِم لَقدْ كَانُوا مَغْبَوُطِيْنَ بِمَا صَنَعُوا ومَحْسُودِيْنَ عَلى مَا جَمَعُوا وَلَقَدْ عَلِمْتُم مَا صَنَعَ التُّرَابُ بأبْدَانِهِم وَالديْدَانُ بِلُحُوْمِهِمْ.
وَأَطَالَ الكَلامُ في هَذَا الموْضُوعِ وَهُوَ يَبْكِيْ إلى أَنْ قَالَ يَا ساكِنَ القَبْرِ بَعْدَ أَيامٍ قَلائِلَ مَا غرَّكَ من الدنيا هَلْ ظَنَنَتْ أنّكَ تَبْقَى لهَا أَمَا رَأيْتَ مِنْ آبَائِكَ مَنْ قَدْ نَزَلَ بِهِ الأمْرُ وَجَاءَ الأَجَلُ فأصْبَحَ لا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَا نَزَلَ بِهِ وَهُوَ يَرْشَحُ عَرَقَاً وَيَتَلظَّى عَطَشاً وَيَتَقَلَّب في غمَرَاتِ المَوْتِ وَسَكَرَاتِهِ.
ثُمَّ قَرَأَ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَت الحُلْقُوْمُ وَأَنْتُمُ حِيْنَئِذٍ تَنْظُرُوْنَ وَنَحْنُ أقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُم وَلكِنْ لا تُبْصِرُوْنَ فَلَوْلا أنْ كُنْتُم غَيرَ مَدِينِينَ تَرْجعُونَها إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ} وَبَكَى طَويْلاً ثُمَّ قَالَ لَيْتَ شِعْرِيْ مَا الذِيْ يَلقَانِيْ بِهِ مَلَكُ الموْتِ عِنْدَ خُرُوْجِيْ مِن الدُّنْيَا وَما يَأَتِيْني بِهِ مِنْ رِسَالَةِ رَبِّيْ رَثى بَعَضُهم عُمَرَ بن عَبد العزيز فقال:
كَمْ مِنْ شَريعَة حَقٍ قَدْ بَعَثْتَ لَهَا ** كَادَتْ تَموُتُ وَأخْرىَ منْكَ تُنْتَظُر

يا لَهْفَ نَفْسي ولَهْفْ الواجدِيْن مَعَي ** على الحَبيب الذي يُسْقَى بِهِ المَطَرُ

ثلاثة ما رَأتْ عَينى لهَا شَبَهاً ** تَظمُ أَعْظُمُهُمْ في المسجدِ الحُفَرُ

وَأنْتَ رَابعُهم إذ كُنْتَ مُجتِهداً ** لِلحق والأَمْرِ بالمَعْرُوفٍ تبْتَدِرُ

لو كُنْتَ أَمْلِكُ والأَقْدَارُ غَالبةُ ** تَأْتِي رَوَاحاً وتِبْيَاناً وَتبْتَكرُ

صَرَفْتُ عن عُمَر المَرضِي مَصْرَعَهُ ** بِدَير سِمْعَانِ لَكِنْ يَغْلِبُ القَدَرُ

وفي مُصَابِ رَسول الله تسْلِيَةَ ** فِيْمَنْ يمُوت وفي أنْبَائه عِبَرُ

هو الرسولُ الذِي مَنّ الإِلَهُ به ** على البريّةِ وازْدَادَتْ به السّيَرُ

وخير مَن وَلدَتْ عَدْنَانُ قاطِبةً ** وخَير مَن شَرُفَتْ مِن أجْلِهِ مُضرُ

صلى عليه إلهُ العَرش ما طَلَعَتْ ** شَمْسَ وما خَلَفَتْهَا الأنْجمُ الزّهرُ

اللهُمَّ انظِمْنَا في سِلْكِ أهِل السّعادَةْ، واجْعَلْنَا مِنْ عبادِك المُحْسنِينَ الذَينَ لهُم الحُسْنَى وزِيَادَةٌ، واغْفِر لنَا ولوالِديْنا ولجميع المُسْلِمينَ الأحياءِ مِنْهُم، والميتينَ بِرَحْمَتِك يا أرْحَمَ الراحَمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ المُرْوَزِيّ قَالَ أُخْبِرتُ أَنَّ عُمَرَ بنَ عبد العزيز رضيَ اللهُ عَنْهُ لما دُفِنَ سُليمانُ بن عبدِ الملك وَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ سُمِعَ للأَرْضِ هَدَّةٌ أو رَجَّةٌ فَقَالَ مَا هَذِهِ فَقِيْلَ هَذِهِ مَرَاكِبُ الخِلافَةِ قُرِّبتْ إِلَيْكَ لِتَرْكَبَهَا فَقَالَ: مَا لِيْ وَلَهَا أَبْعِدُوْهَا عَنِّيْ وَقَرِّبُوا لِيْ دَابَّتِيْ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهِ فَرَكِبَهَا فجَاءَ صَاحِبُ الشُرْطَةِ يَسِيْرُ بَيْنَ يَدَيْهِ بالحَرْبةِ جَرْياً عَلى عَادَةِ الخُلَفَاءِ قَبْلَهُ.
فَقَالَ تَنَحَّ عَنِّيْ مَا لِيْ وَلَكَ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِن المُسلمينَ ثُم سَارَ مُخْتَلَطاً بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ وَصَعَدَ المِنْبَرَ وَاجْتَمَعَ النّاسُ إِلَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ النَّبيَّ صَلى الله عليه وسلم ثمّ قالَ أيُّها النَّاسُ إِنَّمَا بُلِيْتُ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ غَيْرِ رَأْىٍ مِنِّيْ وَلا طِلْبَةٍ وَلا مَشُوْرَةٍ وَإنِّيْ قَدْ خَلَعْتُ مَا فِي أَعْنَاقِكُمْ مِنْ بَيْعَةٍ فَاخْتَارُوا لِأنْفُسِكُمْ غَيْرِيْ فَصَاحَ المُسلِمُونَ صَيْحَةً وَاحِدَةً قَد اخْتَرْنَاكَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنينَ وَرَضَيْنَاكَ فَلِي أمْرَنَا بِاليُمْنِ وَالبَرَكَةِ.
فَلَمَّا سَكَتُوا حَمِدَ اللهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ أُوْصِيْكُم بِتَقْوَى اللهِ فَإنّ تَقْوَى اللهِ خَلَفٌ مِنْ كُلِّ شيء وليسَ من تقوى الله خلفٌ وَأَصْلِحُوا سَرَائِرَكُم يُصْلِح عَلانِيَتَكًُم وَأَكْثِرُوْا ذِكْرَ هَاذِمِ اللذّاتِ المَوْتَ وَأَحْسِنُوا لَهُ الاسْتِعْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ.
وَإنَّ مَنْ لا يَذْكُرُ منْ آبَائِهِ الذِيْنَ لَيْسَ بَيْنَهُم وبينَ آدَمَ أباً حَيًّا لمعُرقٌ في المَوْتِ وَإنّ هَذِه الأُمّةِ لمْ تَخْتَلِفْ في رَبِّهَا وَلاَ فِي نَبيِّهَا وَلا في كِتَابِهَا إِنَّمَا اخْتَلفُوا في الدِّيْنَارِ والدِّرهَمْ وإنِّيْ وَاللهِ لا أَعْطِيْ أحَداً بَاطِلاً وَلا أَمْنَعُ أَحَداً حَقًّا.
أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَطَاعَ اللهَ تَعَالَى وَجَبَتْ طَاعَتُه وَمَنْ عَصَى اللهَ فلا طَاعَة لَهُ أَطِيْعُونِيْ مَا أَطَعْتُ اللهَ فَإذَا عَصَيْتُه فَلا طَاعَةَ لِيْ عَلَيْكُم ثُمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ دَارَ الخِلاَفَةِ وَأَمَرَ بِالسُّتُورِ فَهُتِكَتْ وبالبُسُطِ فَرُفِعتْ وَأَمَرَ بِبَيْعِ ذَلِكَ وَادْخَالِ أَثْمَانِهَا بَيْتَ مَالِ المُسْلِمِيْنَ.
ثُمَّ ذَهَبَ يَتَبَوَّءُ مَقِيْلاً فَأَتَاهُ ابْنُهُ عَبْد المَلِكَ فقَالَ مَا تُرِيْدُ أَنْ تَصنع يَا أَبَتيْ قاَلَ أَيْ بُنَيَّ أَقِيْلُ فَقَالَ تَقِيْلُ وَلا تَرُدُّ المظالِمَ فَقَالَ: أَيْ بُنَيّ قَدْ سَهِرْتُ البَارِحَةَ فِي أَمْرِ عَمِّكَ سُلَيْمَان فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ رَدَدْتُ الْمَظَالِمَ. فقال: ياَ أمير المُؤمنينَ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنْ تَعِيْشَ إلى الظّهْر فقالَ: ادْنُ ِمنّيْ فدَنَا مِنْهُ فقَبّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
وَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الذي أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِي مِنْ يُعِنْنُي عَلى دِيْنيْ فَخَرَجَ وَلَمْ يَقِلْ وَأَمرَ مُنَادياً يُنَادِي أَلا مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ فليرَفعْهَا إلَيَّ فَتَقَدّمَ إِلَيْه ذِمِّيّ مِنْ أهْل حِمْصَ فَقَالَ يَا أَمِيْرَ المُؤمِنينَ أَسْأَلُكَ كِتَابَ الله قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ إِنَّ العَبَّاسَ بْنَ الوَلِيْدِ اغْتَصَبَنيْ أَرْضِيْ وَالعَبَّاسُ حَاضِرٌ فَقَالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عَنْهُ مَا تَقُولُ يَا عَبَّاسُ قَالَ إِنَّ أَمِيْرَ المؤمِنينَ الوَلِيْدُ أَقْطَعَنِيْ إيَّاهَا وَهَذا كِتَابُهُ.
فَقَالَ عُمَرُ رَضي اللهُ عَنْهُ مَا تَقُوْلُ يَا ذِمِّيْ قَالَ أمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ أَسْأَلُكَ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى فقَََالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عَنْهُ كِتَابَ اللهِ أَحُقُّ أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ كِتَابِ الوَلِيْد فَاردُدْ عَلَيْهِ أرضَهُ يَا عَبَّاس فَرَدَّهَا عَليْهِ ثمَّ جَعَلَ لاَ يُدَّعَى عَلى شئٍ مِمَّا في أَيْدِيْ أَهْل بَيْتِهِ مِن المَظَالِمَ إِلاَّ رَدَّهُ مَظْلَمَةً مَظْلَمَةً وَلَما بَلَغَ الخَوَارِجَ سِيْرَةُ عُمَرَ وَمَا رَدَّ مِن المَظَالِمَ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقَاتِل هَذَا الرَّجُلَ وَقَالَ فِيْهِ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:
وَلَيْتَ وَلَمْ تَسْبُبْ عَلِيّاً وَلَمْ تُخِفْ ** بَرِيَّاً وَلَمْ تَقْبَلْ مَقَالَةَ مُجْرِمِ

وَصَدَّقْتَ بِالقَوْلِ الفِعَالَ مَعَ الذِيْ ** أَتَيْتَ فَأمْسَىَ رَاضِيَاً كُلَّ مُسْلِمِ

فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الأَرْضِ وَالغَرْبِ كُلِّهَا ** مُنَادٍ يُنَادِيْ مِنْ فَصِيْحٍ وَأَعْجَمِِ

يَقُوْلُ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ ظَلَمْتَنِيْ ** بِأَخْذِكَ دِيْنَارِيْ وَلَا أَخْذِ دِرْهَمِ

فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ لِمُبَايِعٍ ** وَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ بَيْعَةٍ ثُمَّ أَكْرِم

وَلَمَّا بَلَغَ الجَبَّارَ العَنِيْدَ عُمَرَ بْنِ الوَلِيْدِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيْزِ رَحِمَهُ اللهُ رَدَّ الضَّيْعَةَ عَلَى الذِمِيّ كَتَبَ إلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ يَعْتَرِضُ عَلَى عَدْلِهِ وَيَزْعُمُ أنه جورٌ، فقال في كتابه إنك قد ازدريت على من كان قبلك مِنْ الخُلَفَاءِ، وَعِبْتَ عليهم وسرت بغير سرتهم بغضاً لهم وشيناً لمن بعدهم مِنْ أَوْلاَدِهمْ. قَطَعْتَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوْصَلَ إذْ عَمَدْتَ إلَى أَمْوَالِ قُرَيْشٍ وَمَوَارِيْثِهم فَأَدْخَلْتَهَا بَيْتَ المَالِ جَوْرَاً وَعُدْوَانَاً، وَلَنْ تُتْرَكَ عَلَى هَذِهِ الحَالِ، والسَّلاَمُ.
فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيْزِ كِتَابَهُ كَتَبَ إلَيْهِ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ. مِنْ عَبْدِ اللهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ إلى عُمَرَ بْنِ الوَلِيْدِ السَّلاَمُ عَلَى المُرْسَلِيْنَ وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِيْ كِتَابُكَ، أَمَّا أَوَّلَ شَأْنِكَ يَا ابْنَ الوَلِيْدِ فَأُمُّكَ بَنَانَةُ السُّكُوْنِ كانَتْ تَطُوْفُ في سُوْقِ حِمْصَ وَتَدْخُلُ في حَوَانِيْتِهَا ثُمَّ اللهُ أَعْلَمُ بِهَا.
ثُمَّ اشْتَرَاهَا ذُبْيَانُ مِنْ مَالِ المُسْلِمِيْنَ فَأَهْدَاهَا لأبِيْكَ فَحَمَلَتْ بِكَ فَبِئْسَ المَوْلُوْدُ، ثُمَّ نَشَأْتَ وَكنْتَ جَبَّارَاً عَنِيْدَاً تَزْعُمُ أَنِّي مِنْ الظَّالِمِيْنَ إذْ حَرَمْتُكَ وَأَهْلَ بَيْتِكَ مَالَ اللهِ تَعَالَى الذِي هُوَ فِي حَقِّ القَرَابَاتِ وَالمَسَاكِيْنِ وَالأَرَامِلْ.
وَإِنَّ أَظْلَمَ مِنِّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنْ اسْتَعْمَلَكَ صَبِيَّاً سَفِيْهَاً عَلَى جُنْدِ المُسلِمِينَ تَحْكُمْ فِيْهِمْ بِرَأْيِكَ َولَمْ يَكُنْ لَهُ في ذَلِكَ نِيِّةٌ إِلا حُبُّ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَوَيْلٌ لِأبِيْكَ مَا أكْثَر خُصَمَاؤُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَيْفَ يَنْجُو أبُوكَ مِنْ خُصَمَائِهِ.
وَإِنّ أَظْلَمَ مِنِّىْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ اسْتَعْمَلَ الحَجَّاجَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَيَأْخُذ المالَ الحََرَامَ.
وَإِنَّ أَظْلَمَ مِنّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ اسْتَعْمَلَ قُرَّةَ أَعْرَابِيَّاً جَافِيَاً عَلَى مِصْرَ وَأذِنَ لَهُ في المَعَازِفِ وَاللهْوِ وَشُرْبِ الخَمْرِ.
وَإنَّ أظْلَمَ مِنّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ جَعَلَ لِعَالَيَةِ البَريْقِيَّةَ في خُمسِ العَرَبِ نَصِيْبَاً فَرُوَيْدَاً يَا ابْنَ بَنَانةَ لَوْ الْتَقَتَا حِلَقُ البِطَانِ وَرُدَّ الفَئُ إلى أهْلِهِ لَتَفَرَّغْتُ لَكَ وَلأهْلِ بَيْتِكَ فَوَضَعْتُهُم عَلى المحجّة البَيْضَاءِ فَطَالَمَا تَرَكْتُمْ المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ فَطَالَمَا تَرَكْتُمْ الحَقَّ وَأَخَذْتُم البَاطِلَ وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مَا أرْجُو أَنْ أكُونَ رَأَيْتُهُ مِنْ بَيَعِ رَقَبَتِكَ وقَسْمِ ثَمَنِكَ عَلى الأَرامِل والمساكين واليَتَامَى فإنَّ لِكُلٍّ فِيْكَ حَقَّاً وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى وَلَا يَنَال سَلَامُ اللهِ القَوْمَ الظَّالِمِيْنَ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَحَدُ عُمَّالِهِ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ أَصْلَحَ اللهُ الأمِيْرَ فَإنَّ قَبْلِي أنَاساً مِن العُمَّالِ قَد اقْتَطَعُوا مالاً عَظِيْمَاً لَسْتُ أَقْدِرُ علَى اسْتِخْرَاجِِهِ مِنْ أيْدِيْهِم إلّا أنْ أمَسَّهُم بِشَئٍْ مِن العَذَابِ فَإنْ رَأَى أَمِيْرُ المُؤمنينَ أَنْ يَأذَنَ لِيْ في ذَلِكَ أَفْعَلُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَمَّا بَعْدُ فَالعَجَبُ كُلَّ العَجَبِ مِنْ اسْتِئْذَانِكَ إيَّايَ في عَذَابِ بَشَرٍ كَأَنِّيْ لَكَ وِقَايَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَكَأَنَّ رِضَائِيْ عَنْكَ يُنْجِيْكَ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاْنْظُرْ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ عُدولٌ فخذه بِمَا قَامَتْ بِهِ البَّيِّنَةُ.
وَمَنْ أقَرَّ بَكَ بِشَئٍ فَخُذْهُ بِمَا أقَرّ بِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ فَاسْتَحْلِفْهُ باللهِ العَظِيْمِ وَخَلِّ سَبِيْلَهُ وَأيْمُ اللهُ لأنْ يَلْقُوْا اللهَ بِخيَانَاتِهمْ أحَبُّ مِنَ أنْ ألقَى اللهَ بِدِمَائِهِمْ والسَّلَامُ.
وَكَانَ لِلْوَلِيْد بْنِ عَبْدِ الملِكِ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ رَوْحٌ وَكَانَ نَشَأَ بِالبَادِيَةِ فَكَأنهُ أَعْرَابِيٌّ فَأتَى نَاسٌ مِن المُسلِمِيْنَ إِلى عُمَرَ يُخاصِمُوْنَ روْحَاً في حَوَانِيْتَ بِحِمْصٍ وَكَانَتْ لَهُمْ أقْطَعَهَا إيَّاهُمْ أَبُوهُ بِسِجِلِّ الوَلِيْدِ.
قَالَ مَا يُغْنِيْ عَنْكَ سِجِلُّ الوَلِيْدِ، الحَوَانِيْتُ حَوَانِيْتُهُمْ قَدْ قَامَتْ لَهُمْ البَيِّنِةُ عَلَيْهَا خَلِّ لَهُمْ حَوَانِيْتَهُم فَقَامَ روْحٌ وَخَصْمُهُ الحَمْصِيُّ مُنْصَرِفِيْنَ فَتَوَعَّدَ رَوْحٌ الحِمْصِيُّ فَرَجعَ الحِمْصِيُّ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: هُوَ واللهِ يَتَوَعَّدُنِيْ يَا أمِيْرَ المُؤمِنِيْنَ.
فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبِ بْنِ حَامِدٍ وَهُوَ مِنْ حَرَسِ عُمَرَ إذْهَبْ إلَى روْحٍ يَا كَعْبُ فَإنْ سَلَّمَ الحَوَانِيْتَ إِلى الحِمْصِيّ فَذَاكَ وَإلا أَتِنِيْ بِرَأسِهِ فَسَمِعَ بَعْضُ المُوَالِيْنَ لِرَوْحٍ كَلاَمَ عُمَرَ فَأسْرَعَ في إِخْبَارِهِ بِمَا قَالَ عُمَرُ فَخَلَعَ قَلَْبُه وَخَرَجَ إِلَيْهِ كَعْبٌ وَقَدْ سَلَّ بَعْضَ السَّيْفِ فَقَالَ لَهُ قُمْ فَخلِّ لَهُ حَوَانِيْتَهُ قَالَ نَعَمْ وَخَلَّى لَهُ الحَوَانِيتَ وَتَابَعَ النَّاسُ في رَفْعِ المَظَالِمِ فَمَا رُفِعَتْ إلَيْهِ مَظْلَمَةٌ إلاَّ رَدَّهَا.
أَلاَ فَاسْلُكْ إِلَى المَولَى سَبِيلاَ ** ولا تَطْلُبْ سِوَى التَقْوَى دَلِيْلاَ

وَسِرْ فِيهَا بِجِدٍ وانْتِهَاض ** تَجِدْ فِيْهَا المُنَى عَرْضَاً وَطُوْلا

وَلَا تَرْكَنْ إِلى الدُّنْيا وَعَوِّلْ ** عَلَى مَوْلَاكَ واجْعَلْه وَكِيْلَا

وإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُعَزَّ عِزاً ** يَدُوْمُ فَكُنْ لَهُ عَبْداً ذَلِيْلَا

وَوَاصِلَ مَنْ أَنَابَ إِليهِ واقْطعْ ** وصَالَ المُسْرِفِينَ تَكُنْ نَبَيْلَا

ولا تُفْنِى شَبابكَ واغْتَنِمْهُ ** وَمثِّلْ بَيْنَ عَيْنيْكَ الرَّحِيْلَا

ولا تَصِل الدُّنَا واهْجُرْ بَنِيْهَا ** عَلَى طَبَقاتِهم هَجْرَاً جَمِيْلَا

وَعَاملْ فِيهِمُ الْوَلَى بِصِدْقٍ ** يَضَعْ لَكَ فِي قُلُوبِهِهُ القُبوُلَا

والله أَعلم وصلى الله على مُحَمّدَ.